يَا بُنَيَّ، وَاللَيْلُ يَشْتَكِي هَمِّي،
والقَلْبُ يَبْكِي وَجَعَ أَيّامِي.
تَرَكْتَ الدَارَ يَتِيماً مِنْ صَوْتِكَ،
فَمَاتَتْ الأَغَانِي وَجَفَّتْ أَحْلَامِي.
أَيْنَ المَدَى؟ وَأَيْنَ الوَصْلُ يَا فَلْذَةً؟
وَهَلْ عَادَ اللَيْلُ يُخَبِئُ أَقْدَامِي؟
أَرَاكَ فِي قَمَرِي المَكْسُورِ شَاحِباً،
وَألْمَحُ طَيْفَكَ فِي دُمُوعِ أَيَامِي.
يا صَغِيرِي، العُصْفُورُ هَجَرَ غُصْنَهُ،
والوَرْدُ ذَبُلَ بِلَا يَدَيْكَ يَرْوِيهِ.
كُنْتَ النُورَ فِي لَيْلِي وَسِرَاجَ طَرِيقِي،
فَمَنْ لِلرُوحِ اليَوْمَ يُحْيِيهِ؟
أَوْصَيْتُ النُّجُومَ أَنْ تَدُلَكَ نَحْوَ دَارِي،
وَأَرْسَلْتُ الرِيحَ عَلَّهَا تُنَادِيكَ.
لَكِنَّ الغُرْبَةَ خَطَفَتْكَ مِنْ حُضْنِي،
وَالدُنْيَا بِوَحْشَتِهَا أَصْبَحَتْ تُؤْذِيكَ.
أَحِنُّ لِلبَابِ حِينَ كُنْتَ تُغَنِي،
وَلِلضِحْكَةِ التِي مَلَأَتْ صَمْتَ العُمْرِ.
يا بُنَيَّ، العُمْرُ يُمْضِي بِخُطَاهُ،
فَهَلْ يَعُودُ الحَبِيبُ قَبْلَ القَبْرِ؟
عُدْ يَا بُنَيَّ، فَالدَارُ تَنْتَظِرُ خُطَاكَ،
وَالقَلْبُ يَعْجَزُ عَنِ الصَبْرِ بِلَا رُؤْيَاكَ.
قَدْ يَبْقَى لِي مِنَ الحَيَاةِ رَمَقٌ،
يَكْفِي لِأَضُمَكَ... فَلَا تَخْذَلْ أُمّاً تَهْوَاكَ.
![]() |
قصيدة يا بني، أين الرحيل؟ |
مقدمة:
قصيدة "يا بني، أين الرحيل؟" تنتمي إلى المدرسة الشعرية التراثية التي تمزج بين الشجن الإنساني العميق والأسلوب البلاغي الرصين. تتناول القصيدة قضية اجتماعية وإنسانية شديدة الحساسية، وهي غياب الابن عن أمه المكلومة، مقدمةً تصويرًا وجدانيًا مليئًا بالأسى والحنين، ومستخدمًة أدوات شعرية غاية في الإبداع.
المضمون:
القصيدة تعبر عن معاناة أمٍّ تُركت وحيدة بعد رحيل ابنها، الذي كان يمثل لها السند والنور في حياتها. ينطلق الشاعر من استحضار الليل كشاهد على هموم الأم وأحزانها، مما يمنح النص أبعادًا رمزية تُبرز الوحدة والوحشة.
ينتقل الشاعر بعد ذلك إلى رسم صورة حسية عن البيت المهجور، حيث يغيب صوت الابن وضحكاته، فتذبل الحياة من حولها. ومن خلال لغة مؤثرة وصور شعرية قوية، يُبرز الألم النفسي للأم التي ترى في غياب ابنها مأساة وجودية.
التحليل الفني:
1. **اللغة والأسلوب:**
اعتمدت القصيدة على لغة عربية فصحى ذات جرس موسيقي عالٍ، مما يعكس تأثرها بالشعر العربي القديم. الكلمات المختارة مثل "الليل"، "الدموع"، "المدى"، و"القبر" تعكس طابع الحزن المسيطر على النص.
2. **الصورة الشعرية:**
استخدم الشاعر صورًا شعرية متعددة لإيصال المشاعر، مثل:
- "العصفورُ هجرَ غصنهُ" لتصوير الوحدة والفراغ.
- "أراكَ في قمري المكسورِ شاحِباً"، حيث يجسد القمر كرمز للأمل المنطفئ.
3. **التكرار:**
يتكرر نداء الأم "يا بنيَّ"، مما يعكس تعلقها العاطفي العميق بابنها، ويُبرز الحنين والشوق المتواصلين.
4. **الموسيقى الشعرية:**
اعتمدت القصيدة على الأوزان الشعرية التقليدية، ويبدو أنها تدور في إطار بحر "الكامل" أو "الوافر"، مما يمنح النص انسجامًا لحنيًا يليق بطابعها الحزين. الإيقاع الداخلي أيضًا يعزز من عمق الشعور، خاصة باستخدام التوازي بين الجمل.
الرمزية:
- **الليل:** رمز للوحدة والحزن.
- **القمر المكسور:** يرمز إلى فقدان الأمل والفرح.
- **الغصن المهجور:** يُشير إلى الفراغ العاطفي الذي تعيشه الأم بعد رحيل ابنها.
الرسالة الإنسانية:
القصيدة تحمل رسالة مؤثرة عن قيمة الأسرة والروابط العائلية، وتدعو إلى التفكر في معاناة الأمهات اللواتي يعانين من غياب أبنائهن، سواء كان ذلك بسبب السفر أو الهجرة أو غيرها من الظروف.
الخاتمة:
"يا بني، أين الرحيل؟" قصيدة تجسد شجن الأمومة بحرفية وصدق عاطفي عميق. من خلال استخدام الأسلوب التراثي والصور الشعرية القوية، استطاع الشاعر أن يقدم لوحة حزينة تُلامس وجدان القارئ وتُثير تأملاته في أهمية الروابط العائلية وقيمة الحضور الإنساني. هذه القصيدة ليست مجرد نص شعري، بل هي رسالة إنسانية خالدة تلامس القلوب وتدعو إلى إعادة النظر في مفهوم الغياب والعودة.
إرسال تعليق